fbpx
+249 90 003 5647 drarchhashim@hotmail.com

اضغط على الصور للتكبير

     

مشاهد – مساجد حمدي

ولد أستاذنا المعمارى المميز محمد محود حمدي فى أوائل أربعينيات القرن الماضى. درس فى قسم العمارة بكلية الهندسة و العمارة بجامعة الخرطوم الذى أسسه عدد من الأساتذة الآوربيين فى أواخر الخمسينات. تلقى دراستهم هناك فى ظروف مثالية. جوانب محددة خففت من تأثير الإستلاب الثقافى المتوقع نتيجة لخلفية الأساتذة الغربية. إذ إنحرف بعضهم قليلاً عن التركيز على فكر و نهج الحداثة الذى يتبناه القسم. سلطوا الضوء على عظمة التراث المعمارى الإنسانى فركزوا على روائع ممالكنا القديمة. بالإضافة إلى ذلك إهتموا  بشكل خاص بإرث عمارة و فنون الحضارة الإسلامية الفخيم.

فتحت محاضرات التراث الإسلامى أعين و عقل الطالب محمد حمدي على كنوز العمارة و الفنون فى شتى حقب الحضارة الإسلامية. فغاص و تعمق فيها متدبراً أبعادها الفلسفية. تزامن إهتمامه بهذه الجوانب مع مرحلة إيدولوجية مهمة كان يعيشها خلال تلك المرحلة من حياته الجامعية. إذ إنخرط بحماس شديد كعضو مؤثر فى حركة الأخوان المسلمين و هى حركة تجديدية برزت كتيار مهم زمانئذ. إنعكست خلفيته الإيدولوجية بشكل مؤثر على فهمه للعمارة و الفنون الإسلامية. تجلى ذلك بشكل واضح فى العديد من أعماله فى عمارة المساجد التى سنستعرض العديد من جوانبها لاحقاً.  

تخرج محمد حمدي فى منتصف الستينات مع مجموعة الدفعة الخامسة. لأنه كان من المتفوقين أستوعب كمساعد تدريس بالقسم. أختير فى نفس الوقت مع عدد من زملائه الخريجين للعمل بوحدة المبانى بكلية الهندسة التى كانت مكلفة بتصميم مبانى الجامعة. أستوعبوا لسد الفراغ الذى نجم عن مغادرة عدد من المهندسين البريطانيين للبلاد. عملت هذه الكوكبة من الخريجين فى تناغم تام فأنتجت عمارة بالغة الرصانة و البهاء جائت كلها مؤسسة على نهج الحداثة. توزعت و زينت أرجاء مجمعات الجامعة فى المدن الثلاثة.

كان لمحمد حمدي نصيب مقدر فى تلك المنظومة من الروائع المعمارية فقدم أعمالاً متنوعة الإستخدامات. بعضها أكاديمية الطابع و بعضها الأخر سكنى و جائت كلها إلى حد بعيد فى إطار عمارة الحداثة. نجحت إلى حد ما فى حسن تقديمه خارج إطار الجامعة مما ساعده فى الإنتشار خلال تلك المرحلة المبكرة من مسيرته. من أهم أعماله فى الجامعة فى حقبة نهايات السبيعينيات و سبب تميزها إنها شكلت نقطة إختراق سعى عبرها فى التعامل مع العمارة الإسلامية برؤية تجديدية. سنعرض لها بشئى من التفصيل لاحقاً.

بعد تلك المرحلة الأولى من عمله بالقسم و وحدة المبانى أبتعث للمملكة المتحدة للتحضير للدراسات العليا. بعد عودته إستمر فى التدريس بالقسم لعدة سنوات. تابع فى نفس الفترة أعماله فى مواقع الجامعة المتعددة التى ساعدت كثيراً فى تقديمه خارج إطارها. كانت جل أعماله الاولى سكنية الطابع و هى بيوت أصدقائه من الشباب المهنيين من مؤسسى حركة الأخوان المسلمين. هيأت له تلك الظروف المثالية الفرصة لطرح أفكاره الجديدة. جائت أعماله بشكل عام فى إطار عمارة الحداثة لكنها تميزت عنها بملامح منحتها طابع محلى. خلال نفس المرحلة مارس ميوله المتمردة فى مجال أخر لا يحتمل الخروج عن النص و هو عمارة المساجد. تجلى ذلك فى عمارة مسجد حاجة النية بالصافية فى الخرطوم بحرى الذى سنتعرضه له بشئى من التفصيل لاحقاً.

تمددت أعماله الإستشارية فى نهاية السبيعينات فوجد نفسه مضطراً للإستقالة من الجامعة للتفرغ لها. شكلت تلك الفترة بداية مرحلة مهمة فى مسيرته إنفتح فيها بشكل كبير على العمل الإستشارى. نجح فى إقتحام أفاق المشاريع الكبيرة و كاد أن يحتكر مجال مبانى رئاسة البنوك الرئيسة و بعض المؤسسات الإقتصادية الوطنية. لم تمنعه تلك التطورات الملموسة خلال عقد الثمانينات أو تشغله عن عشقه الأثير و مغامراته  فى مجال عمارة المساجد. فجرها داوية من خلال تصميمه لمسجد القصر الجمهورى. تعامل معه بروح تجديدية إستلهمت التراث بدون أن تلجاء للنقل الحرفى كما سنوضح ذلك لاحقاً بإستعراض هذا العمل المهم.

تمددت مسيرة محمد حمدي المعمارية فتجاوزت سنواتها النصف قرن من الزمان. تنوعت أنواع الأعمال التى تعامل معها من حيث نوعية إستخداماتها. أبتداء بالبيوت و هى أبسط أنوعها. أدخلته جامعة الخرطوم عبر مبانيها المتنوعة فى تجارب جديدة فإجتاز الإختبار بتفوق و جدارة. فى مرحلة لاحقة خاض تحديات اكبر بتعامله مع مبانى مقار مؤسسات إقتصادية مفتاحية و مهمة جدا. حقق من خلالها درجات متفاوته من النجاح و الأمر فى النهاية متروك لكل جهة حسب معايير تقوييمها. خلال كل مراحل مسيرته المعمارية كانت عمارة المساجد دائماً واحدة من أهم محاور إهتمامه.

بالرغم من تباين الأراء حول محمد حمدي و أعماله المعمارية إلا أننى أجد الكثير فى جوانبها مما يسترعى الإنتباه. لهذا السبب خصصت له  و لها جزءً من كتاب أعد لإصداره قريباً عنوانه ( العمارة السودانية: مواقف و مشاهد). دفعنى لتخصيص جزء عنه مواقفه التى ميز بها نفسه عن أقرانه من الرموز الذين إلتزموا بنهج الحداثة بدرجات متفاوته من الصرامة. مواقف عبر عنها بأعمل معمارية لا تخلوا من التفرد. أتمنى أن تسعفنى سنوات العمر و نعمة الصحة لكى أقدم دراسة مستوفية معمقة عن تجربته. أكثر جانب لفت إنتباهى من مجمل عطائه المعمارى هو مغامراته فى مجال عمارة المساجد. هو نفس المبرر الوجيه الذى دفعنى لكتابة هذه المقالة المطولة.

سنتوقف عند محطات محددة من مسيرته لنركز و نلقى ظلالاً كثيفة عليها نسبة لظروف العمل الإبداعى فيها المحفوف بالتعقيدات و التحديات. تدفق عطائه الإبداعى الثر فيها مدفوعاً بمفاهيم فلسفية معمقة. الإشارة هنا لعمله فى مجال العمارة الإسلامية و تحديداً عمارة المساجد. الواضح أن تركيزه على هذا الجانب كان نابعاً من توجهاته الإيدولوجية و إهتماماته الفكرية. سار فيه فى وتيرة تصاعدية من حيث الجانب الإبداعى فى فترة أبتداءت فى منتصف الستينات و إستمرت حتى نهاية الثمانيات. شهد عمله و أسلوبه المعمارى خلال تلك الفترة تحوراً ملموساً شكل حالة دراسية جديرة بالإنتباهة و الإهتمام.      

الفكرة الأساسية لجماعة الأخوان لمسلمين تقوم على أحياء مفاهيم الإسلام و صياغتها فى صورة عصرية تتماشى و تواكب الواقع المعاش. إجتهد منظروها و قادة العمل السياسى و قدموا طروحات تخاطب عدد من جوانب الحياة و أمورها. الواضح أن محمد حمدي أراد أن تكون له إسهامات فى مجال تخصصه. لكن التحدى الأكبر أنه إقتحم مجالاً فى العمارة إعتبره الناس مقدساً لا ينبغى المساس بالنهج التقليدى فيه. تجاسر و طبق مفاهيم الجماعة فى عمارة المساجد. سنتطرق لكل ذلك من خلال تفحص و إستعراض بعض أعماله المهمة و المؤثرة فى هذا المجال. 

بداء سعيه فى ذلك الدرب الوعر المحفوف بالتحديات و هو بعد خريج جديد. بداءه فى مشروع صغير ما يمكن أن يشار إليه بمسجد الحى. فى منتصف الستينات صمم مسجد (حاجة النية) بحى الصافية بمدينة الخرطوم بحرى. شكله العام و كل سماته و ملامحه مختلفة عن ما هو معهود فى عمارة المساجد. مواده الأساسية العناصر الإنشائية الخرصانية و الطوب الأسمنتى و هى الشائعة الإستخدام فى ذلك الحى السكنى الراقى بمقاييس ذلك الزمان. تفسيرى لهذا المنحى التجديدى هو أنه إأراد ان يتماهى مسجد الحى مع البيوت المحيطة به و أن يكون لكأنه إمتداداً طبيعياً لها. هو بلا شك هدف نبيل متسق مع المفاهيم الإسلامية.

هناك عدد من أوجه الإختلاف إذا قارنا عمارة مسجد (حاجة النية) بالنماذج المعهودة. واحدة منها تصميم العقدات- الأقواس أو الآرشات. لن تجد هنا الأنواع النصف دائرية إذ إستعاض عنها بعقدات متوجة بأشكال مثلثة. أهم مظهر من مظاهر الخروج عن نصوص عمارة المساجد التقليدية هو مبنى المآذنة الصغير. عظمه الأساسى سلم خرصانى حلزونى الشكل ممسوك بأعمدة خرصانبة نحيفة مستطيلة المقطع. ذلك الهيكل الخرصانى محاط بحائط مخرم مشيد بمكعبات خرصانية مجوفة. مبنى المأذنة الصغبر تعلوه قبة صغيرة مبتكرة الشكل عبارة عن تاج مقطوع من ألواح الصاج.  أسر لى المصمم محمد حمدي بأنه إستلهمه من شعار شركة الخطوط الجوية الهولندية ال  KLM.

الواضح أن تجربة مسجد (حاجة النية) كانت بالنسبة لمحمد حمدي مرحلة تسخين حسب مفهوم الألعاب الرياضية إنطلق بعدها بثقة فى نهجه التجديدى. الخطوة الثانية كانت فى منتهى الجسارة و هى مشروع مسجد جامعة الخرطوم الذى شيد فى بداية السبعينيات. كانت خطوة محتشدة بمظاهر التحدى لقوالب العمارة الإسلامية الموروثة. سارت عملية التحدى فى عدة إتجاهات بداءً بإختيار مواد البناء الرئيسة. إختياره لها تجاهل التقليد المتبع و هو الإلتزام بطوب السدابة مع العناصر الخرصانية فى كل مبانى جامعة الخرطوم فى مجمع الوسط . تحدت عمارة المسجد تلك الأعراف. فالحوائط المتمددة بين عناصر هيكله المعدنى الإنشائى جلها من الزجاج المرايا و بعضها مكسو بالرخام.

إستوعب مبنى مسجد جامعة الخرطوم و وظف أخر مستجدات مجالات إنشاءات و تشييد المبانى و تكسيتها. العرش إستخدم فيه أحدث نظام هو الإطارات الفضائية الذى يغطى مساحات شاسعة بدون أعمدة وسطية. فى قفزة نوعية فى مجال الإنشاءات إستخدم لأول مرة فى السودان أنواع من الأعمدة لتغطية الأجزاء الخارجية المحيطة بالمسجد. تعرف بإسم الأعمدة المشرومية mushroom columns  و الإسم مشتق من نبتة المشروم الصغيرة لأنه يشبهها. الأعمدة المتكاتفة هنا تبدو لكآنها رواقات- برندات. ظواهر التحديث تتجلى فى غلاف المبنى و سقفه الداخلى. تتسييد الموقف هنا العناصر المعدنية و الزجاج المرايا.

لم يتعامل محمد حمدي مع هذا العمل المعمارى بمنظور محدود الرؤية و من منطلق تقنى بحت بإعتباره مهندس engineer. إستشعر دوره المتعاظم النابع من خصوصية هذا العمل النابعة من أبعاده الروحانية. بالإضافة إلى ذلك هذا المبنى يشكل مرفقاً مهماً فى واحدة من أهم قلاع العلم و المعرفة فى البلاد. لهذه الأسباب مجتمعة تعامل بإهتمام فائق و حساسية بالغة مع هذا المشروع. تجاوز الجوانب التقنية و المعمارية فركز بشكل خاص على المكون الجمالى متسلحاً بمقدراته الفائقة و إحساسه الفنى العالى. مستصحباً معه ذلك الإرث الفخيم من تراث العمارة و الفنون الإسلامية. فنثر بصمات و ملامح منها هنا و هناك محمولة على أجنحة الإبداع.

أبلغ مثال على إهتمام حمدي بالجانب الجمالى و روحه الإبتكارية حائطى السور الشمالى و الشرقى. تتمدد فيها وحدات زخرفية إسلامية مكررة و متصلة مصنعة على شكل ما يعرف بالقريل grill لتكون فى النهاية حائط سور شفاف. بالَاضافة لتلك الملامح الجمالية هناك تلك اللوحة الخارجية الرائعة التى تتوسط الحائط الشمالى الشرقى خلف منطقة المنبر. الجميل فى هذا العمل أنه نجح فى أن يجعل أجزاء المبنى الإنشائية و الرئيسة هى نفسها العناصر الجمالية. أبلغ دليل على ذلك شكل السقف الداخلى و الأعمدة المشرومية الخارجية و وحدات حائط السور.  

لن أنصب نفسى هنا محامياً لأترافع نيابة عن المعمارى محمد حمدي لأدافع عن توجهه العام الذى أفرز عمارة مسجد الجامعة. قد أكون مؤهلاً للعب هذا الدور من واقع حواراتى المتصلة معه فى هذا الشأن و شئون أخرى ذات صلة به. إتبع المصمم هذا النهج و بالذات إستعياب أخر مستجدات تقنيات المبانى و موادها بإعتبار أن جامعة الخرطوم كانت زمائذ هى قلعة العلم و رمز التقدم التقنى. فمنسوبوها من العلماء فى مجال الهندسة و العمارة كانوا و لا ما زالوا هم حملة المشاعل.  هم الذين يقودون حركة التغيير للعبور بالعمارة لآفاق تقنية و فنية جديدة.

فى نهاية الثمانينات بعد عقد من الزمان من إنتهاء العمل فى مسجد جامعة الخرطوم ظهر محمد حمدي بعمل معمارى أخر بالغ التميز. سار فيه فى نفس ذلك الدرب المواجهة بالتحديات. محاولات متصلة و إصرار شديد جعل مشروع مسجد القصر الجمهورى فى بداية التسعينات واقعاً معاشاً. الإنجاز  الذى حققه هنا تجاواز عملية التغلب على الصعوبات العملية التى إعترضت تنفيذ المشروع. من أهم إنجازات محمد حمدي حسب رؤيته الشخصية أنه تمكن من الإستمرار فى النهج الذى تبناه فى عمارة المساجد مع تطويره بشكل ملموس. وصل به فى هذا العمل لدرجة عالية من البساطة و النقاء و التكثيف إرتقت به لأعلى درجات التعبير.

قد يختلف الناس و المعماريين و النقاد فى نظرتهم و تقييمهم لمشروع مسجد القصر الجمهورى . لكنه بلا شك حسب رؤيتى الشخصية عمل يستحق الإهتمام به و الإنتباه إليه بغض النظر عن النتيجة المتوقعة سلباً كانت أم إيجاباً. فهو بالإضافة لأعمال أخرى لمحمد حمدي تكشف لنا جانب مهم من شخصيته و عمارته إذا قارناه بزملائه من المعماريين المؤثرين. إننى فى هذا السياق أعتبره شخصية خلافية يتفق الناس و يختلفون فى تقييم نهجه المعمارى.

عدة عوامل جعلت مشروع مسجد القصر الجمهورى واحد من أهم أعمال محمد حمدي. من أهمها إرتباطه المباشر بأهم مؤسسة سياسية سيادية. حظى هذا المشروع بإهتمام خاص من بعض الرؤساء لأنه كان يحقق التوازن مع تلك الكنيسة التى شيدها المستعمر بجوار مبنى القصر الرئيس. موقع المسجد عزز من أهميته فهو مشيد فى الركن الجنوبى الغربى من مجمع القصر الجمهورى المطل على شارع الجمهورية أهم شارع فى الخرطوم.

مما لا شك فيه أن عامل الزمن لعب دوراً مهماً فى تعامل محمد حمدي مع هذا المشروع. تأخر بداية العمل فيه لفترة طويلة منحته فرصة أكبر للتأمل. الواضح أن أفكاره الجرئية كانت قد وصلت فى هذه المرحلة من مسيرته لدرجة عالية من النضج. يتميز هذا العمل بدرجة عالية من النقاء فنحن هنا أمام عمارة بيضاء بغير سوء. هل إستمد هذه الخاصية من مبنى القصر الرئيس المجاور المهيمن على الأفق فى ذلك الموقع. سؤال مهم يطرح نفسه مع عدة تساؤلات لا تقل أهمية سنحاول التعامل معها هنا.

عمارة مسجد القصر الجمهورى تحمل عدة رسائل  و تتحدث بأكثر من لسان. بعضها يبدو مختلفاً و أحيناً متناقضاً. مؤشرات حداثية العمل لا تحتاج لكثير جدل. من أهمها نظم الإنشاءات و التشييد المستخدمة و مواد البناء و التشطيبات. يضاف إلى ذلك إذا نظرنا لشكل العمارة خارجياً و داخلياً فهى تتميز بالبساطة و قلة التفاصيل. لكن، أكبر دليل على حداثية الطراز هو غياب مكونات و مفردات تراث العمارة الإسلامية بشكلها التقليدى المعروف.

من ناحية أخرى إذا نظرنا لحالة مسجد القصر الجمهورى نظرة معمقة سنكتشف فيها نفساً كلاسيكياً واضحاً. فشكله العام يستدعى روح و إحساس معابد الحضارات القديمة و أضرحة أزمنة عصر النهضة. ثمة سمات و ملامح أخرى تؤمى بطرف خفى فتكاد تضع هذا العمل فى إطار العمارة الكلاسيكية. سنتعامل مع هذه الجزئية بشئى من التفصيل لاحقاً. ما أوردناه هنا من ملاحظات يدلل على تميز و تفرد الطراز المعمارى الذى يقدم طرحاً حداثياً فى إطار كلاسيكى.

تشكل حالة مسجد القصر الجمهورى حلقة مهمة و متقدمة فى مسيرة تحور العمارة الإسلامية التى تبناها محمد حمدي و أولاها إهتماماً خاصاً. بلغت عمارته هنا مرحلة متقدمة من البساطة و النقاء إذا قارناه بإعمال سبقتها مثل مسجد حاجة النية بحى الصافية بالخر طوم بحرى و مسجد جامعة الخرطوم. المبنى عبارة عن كتلة واحدة مكونة من عدة أجزاء. المبنى ككل و شكله العام مفرط فى التماثلية. بمعنى أنك إذا نصفته بخط وهمى فى أى محور من محاوره الرئيسة ستجد أن نصفية متماثلين أى متشابهين تماماً. و هذه واحدة من أهم سمات العمارة الكلاسيكية.

مبنى مسجد القصر الجمهورى ككل و كل أجزائه الرئيسة تتميزببساطة الأشكال. يشار إليها نسبة لفرط نقائها بالأشكال الإفلاطونية. الأسم ينسب هنا فيلسوف حضارة اليونان القديمة الذى إفتتن بتلك الأشكال. الأشكال غاية فى البساطة أساسها مها كانت معقدة هو المكعب و الهرم.  هذه ملامح أخرى مهمة من سمات العمارة الكلاسيكية. ثمة جوانب أخرى تعزز من درجة نقاء العمارة العالية. هى محدودية مواد البناء و التشطيبات و الألوان. الظاهر منها للعيان خارجياً و داخلياً مكونات المبنى الرئيسة الخرصانية و تمدد بينها المسطحات الزجاجية.تكتمل عناصر النقاء بالإحادية اللونية كما سنوضح لاحقاً.

الأجزاء الطاغية و الواضحة و المهيمنة هى المكونات الخرصانية. تشكل الهيكل الإنشائى للمبنى المكون من الأعمدة و الأبيام و العرش و كلها مبيضة و مطلية باللون الأبيض. تتمدد بين أجزائها مساحات الغلاف الخارجى و جلها من الزجاج المراياً. نكاد لا نلحظها طوال ساعات النهارإذ تظهر على صفحتها و تعكس أجزاء المدينة المحيطة بالمسجد المحتشدة بالحركة. يتكرر هذا الأمر مساءً مع بعض الفروقات الأساسية. تكاد حوائط المسجد الزجاجية الشفافة أن تختفى مفسحة المجال لعالم مختلف عما ما نراه نهاراً. كاشفة عن كل ما يدور بداخله من حركات و سكنات مرتاديه. فى كلا الحالتين تلعب الحوائط الزجاجية دوراً محايداً.

بساطة تصميم المسجد و محدودية الخامات المستخدمة تمنح العمارة أجواء عالية من النقاء. تسمح للأشكال الهندسية الأساسية الضخمة المستمدة من لدن تراث زخارف الفنون و العمارة الإسلامية أن تصدح و تهيمن على فضاءات المكان. تعامل المعمارى محمد حمدي مع الشأن الزخرفى بنهج عبقرى. أحجم عن تغطية  المسجد بالداخل بالوحدات الزخرفية الملون المعقدة التصميم. حجته أنها قد تشغل ممن هم بالداخل و تقلل من تركيزهم على مخرجات الشعائر و الأنشطة المصاحبة لها.

عالج المصمم محمد حمدي أمر المكون الزخرفى بطريقة مبتكرة ذكية. إستوعبه فى إطار المكونات الإنشائية الرئيسة، العرش و هامات و تيجان الأعمدة الضخمة المحيطة بالمبنى من الداخل. إستوحى أشكالها من رصيد الزخارف الإسلامية المستوحأة من الطبيعة و أشكالها الهندسبة. صممها و إستخدمها هنا بطريقة لم تجعل منها عنصر تشويش. أحجامها الضخمة و لونها الأبيض جعلها تبدو كخلفية محايدة. صنعت إطاراً زخرفياً ضخماً مرفرفاً يحيط بالفضاء الداخلى بحنو و رفق.

حصافة المصمم محمد حمدي تتجلى فى توظيفه لمكونات المبنى الرئيسة و الإنشائية بطريقة ممعنة فى الذكاء. إستخدمها كمؤشرات تراثية و رمزية. إستثمر هنا أخر مستجدات علوم إنشاءات المبانى زمائذ. إستخدم بكثرة داخل و حول المسجد الأعمدة المشرومية الشبية بنبتة (المشروم) الصغيرة. صممها بشكل أشبه بشجرة النخيل و معروف ضمناً عظمة شأنها فى تراثنا الإسلامى. إستخدامها الكثيف يجعل المتردد على المسجد و من هم بداخل جدرانه الشفافة يحسون لكآنهم وسط بستان نخيل. توج محمد حمدي إستثماره لتراث الزخارف الإسلامية بتصميم قبة المسجد الرئيسة. شكلها الهرمى المضلع أشبه بوحدة زخرفية عملاقة مرفرفة.

أستخدام محمد حمدي الكثيف للأعمدة المشرومية فى مسجد القصر الجمهورى له أكثر من مردود مهم فى هذه الحالة. إستخدمت فى المنطقة المحيطة بالمبنى المصممة على شكل رواقات، برندات، مخصصة لإستيعاب مزيد من المصلين خارج المسجد. إستخدام الأعمدة المشرومية هنا له ميزة عظيمة. فهو يقلل من عددها بمقدار الربع أو النصف إذا قارناها بحالة الرواقات المعروشة بنظام أنواع الأعمدة التقليدية. من المزايا الأخرى لتقليل عدد الأعمدة إنه يسهل من حركة الناس فى إمتدادات المسجد الخارجية.

تصميم و توزيع الأعمدة المشرومية فى المنطقة المحيطة بمسجد القصر الجمهورى هو واحد من أهم ملامح هذا العمل المعمارى. هناك فتحات صغيرة بين عروش الأعمدة المتلاصقة تسمح بدوران الهواء و هروب الساخن منها مما يساعد فى ترطيب الأجواء هناك. أهمية هذه المعالجة أنها توفر أجواء مشجعة لرواد المسجد لقضاء وقت أطول فى ساحاته الخارجية. و هو ترتيب يتسق تماماً من حكمة و مشروعية صلاة الجماعة التى تهدف لمزيد من التواصل بين الناس و لتعزيز الصلات بين المسلمين.

أعمدة مجمع مسجد القصر الجمهورى المشرومية الداخلية و الخارجية تتشابة تماماً شكلاً و  حجماً و لوناً. هذا الأمر له مردود تصميمى و معنوى أو نفسى مهم بالذات إذا وضعنا فى الإعتبار شفافية حوائط المسجد. هذا التشابه يعطى إحساساً بإستمرارية و تماهى الفضاء الداخلى مع الخارجى. فيمنح الناس، من هم داخل و خارج المبنى إحساساً مهماً بالتواصل. فيعزز واحداً من أهم أهداف صلاة الجماعة.

قد يتحفظ البعض على النهج الحداثى الذى إتبعه محمد حمدي فى تصميم مسجد الفصر الجمهورى. واحد من أهم أسباب تحفظهم قرب المسجد من مبنى القصر كلاسيكى الطراز مما يشكل تنافر كبيراً. يجد المرء نفسه فى البدء أمام حالة يصعب الدفاع عنها. لكننا قد نجد بعضاً من مبررات تعتبر بالنسبىة لى مقنعة لحد ما. أحاول أن أعددها هنا و قد أشرت من قبل لبعض سمات فى عمارة المسجد تمنحه نفساً كلاسيكياً.

كما وضحت من قبل بشئى من التفصيل فإن المتأمل من بعيد و هو ينظر لمبنى المسجد يغمره إحساس لكآنه أمام واحد من معابد الديانات القديمة. بالرغم من الإختلافات العديدة نلاحظ بعض تقارب هنا مع عمارة القصر الجمهورى فكلاهما متوشح باللون الأبيض. نهج محمد حمدي فى هذا العمل جاء متسقاً مع منحى مدرسة خرجت من رحم توجه ولد فى الغرب الآوربى فى بداية الثمانينات. ظهر فى إطار حركة إحتجاجية تمردت على توجه الحداثة. سعت تلك المدرسة لإستلهام التراث لصياغة عمارة حداثية. هذا هو عين ما فعله  حمدي فى وقت سابق لميلاد ذلك التوجه الغربى. إذاً هو موقف يستحق أن نقف له إجلالاً و أن نرفع له القبعة أو لنقل فى هذا المقام العمامة.

 المدهش أن محمد حمدي عندما تبنى هذا النهج و مضى فيه بخطوات ثابتة فى نهاية السبيعنات لم يكن الغرب قد بلور رؤية متكاملة فى هذا الشأن. شهدت تلك الحقبة هناك حركة تململ واضحة متصاعدة نتجت عن إحساس عام بعقم مفاهيم الحداثة التى أفرزت عدة إخفاقات مؤثرة فى عدد من جوانب العمارة. تطور هذا الإحساس المتنامى لأحقاً و تلاور فى شكل توجه عريض عرف بإسم ما- بعد- الحداثة جاء فى مجمله مناهضاً لفكر الحداثة و إفرازاته المعمارية.

أنبت التوجه الجديد عدة مدارس. كان فكر كل واحدة منها مصوب لتجاوز واحدة من إخفاقات توجه عمارة الحداثة. من أهمها موقفه السلبى الرافض للتراث الناتج عن حساسية مفرطة نحو البعد التاريخى. واحدة من مدارس ما- بعد- الحداثة قامت على مبداء مناهضة هذا التوجه. فكرتها مؤسسة على إستلهام التراث بدون نقل حرفى و بشكل يؤاكب مفاهيم العصر و مستجداته. أطلق النقاد على هذا المدرسة إسم الكلاسيكية الراجعة Neoclassical school. نشأت و إشتد عودها فى نهايات عقد الثمانينات عندما كان محمد حمدي قد فرغ من تصميم مسجد القصر الجمهورى الذى يجسد فكر هذه المدرسة.

تأثر محمد حمدي بتراث العمارة و الفنون الإسلامية ظهر خلال فترة باكرة من مسيرتة الدراسية و المعمارية. تعامله معها منذ بدايات مسيرته المعمارية كان يتم بطريقة إبتكارية إذ لم يتوقف أبداءً عند مرحلة النقل الحرفى. تجاسر و إتبع هذا النهج فى أكثر ضروب العمارة تحصيناً ضد التجديد، عمارة المساجد. إقتحمها برؤى جديدة تستحق قدراً من الإحترام و التقدير لمن يتأمل أعماله برؤية معمقة. نلاحظ إنفلاته من قبضة الموروث فى جوانب محددة على سبيل المثال تعامله مع أمر العقدات، الأقواس. خرج عن المآلوف فتجاهل النصف دائرية و إستبدلها بأشكال حادة الزوايا. منحت تلك الأشكال عمارته نفساً أفريقانياً فهى تعتبر الماركة المسجلة للفنون الزنجية.

من مجمل ما أشرت إليه هنا، أتفق الناس أو إختلفوا مع ما أوردت من أفكار، تبقى أعمال محمد حمدي فى مجال عمارة المساجد جديرة بالإهتمام. مسيرته فى هذا الدرب مبنية على جذور راسخة وضع أساسها أحاديث أستاذته الغربيون فى قسم العمارة. عزز من قناعاته توجهه الإسلامى و إنغماسه فى العمل الإيدولوجى. كانت خلفيته و إحساسه الفنى هى خير سند لإدراكه التقنى لعظمة العمارة الإسلامية. سعى بعد ذلك للمضى بها قدماً مرتكزاً على ذلك الموروث الضخم الفخم و الذى عمل على تطويره بروح إبتكارية عالية.

نزعة محمد حمدي للإبتكار و التجديد حررته من قيود التقليد الأعمى  فجعلته يحلق بعيداً فى فضاءات الإبداع. جاء هذا النهج متسقاً تماماً مع أفكار جماعة الأخوان المسلمين التى تشرب بها فى فترة شبابه. فسعى و نجح فى تقديم طرح معمارى مواكب لروح العصر فى كل جوانبه التقنية و الفنية. من خلال أعماله المميزة أسس محمد حمدي لحركة يشار إليها بإسم العمارة الإسلامية التجديدية progressive Islamic architecture. من فرط إهتمامى بها وثقت قبل عدة سنوات لأعمال معمارية مميزة لبعض المعماريين السودانيين الذين ساروا على نفس هذا النهج. عُرضت كأفلام وثائقية على قناة النيل الأزرق و ضمنتها كجزء من مساهماتى فى موقعى الإلكترونى- الرابط drhashimk.com.

 

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.